مطر من نار
شغلت صفارات الانذار معلنة حالة الطوارئ، الفوضى في كل مكان، خوف وذعر حالتان أصبحتا هما الاصل في مدينة لم تكن يوما الى قصة تروى ومثالا يحتذى بالأمان والمحبة والسلام اللذان يطغيان عليها.
شوارع تضج بأصوات البكاء وهمسات تنذر بحرب مروعة، لم نكن كذلك يوما، دوما ما اعتلت دهاليز بلدنا حالة من السلام وأريج حب يفوح من كل مكان، لكن ما لبثت ان دخلت في حالة مروعة طائرات بلون أخضر ناضرا ملئت سماء بلدنا الصافية كم لو انها نجوم في الصباح.
طوال الوقت كنت أسمع الاخبار غير المبشرة من أمي وأبي وإخوتي الكبار، بدأت أخبار الحرب تقتحم حياتنا شيئا فشيئا حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منها، كنا نجلس جميعا حول التلفاز وكلنا آذان صاغية لمعرفة المصير المجهول الذي يتربص بنا، علامات الذعر كانت تغطي على ملامح أبي الهرمة وخوف جائح أقام في فؤاد أمي كانت تقول دوما معقبة على جملة أبي الرسمية: هل حرب بعد هذا العمر، فترد هي: اللهم احم أبنائي. من بين كل تلك الهموم والخوف لم تهتم الا بأبنائها فما للأم غير فلذة كبدها.
كما توقع أخي حسام فقد اصبحت الطائرات التي أراها بالتلفاز تحلق فوق سماء مدينتنا الهادئة، وكلما اقتربت من البيوت المبنية قبل عشرات السنين تتعالى أصوات الصراخات المفعمة بالذعر والهوان.
في احدى الليالي شديدة البرودة تحملقنا حول المدفئة وكانت أمي تخبرنا بحكاية ضياع بعض الخراف منها كنت مستمتعا جدا على الرغم من ان الجميع كان يحاول الاستمتاع بلا جدوى، وصلت أمي الى جملة: وذهبت أجري خلفها....
دوى صوت مرعب، تحول كل ما حولي الى حطام، أغبرة وفتات صخور انتشرت في كل مكان...
فتحت عيني ببطء شديد، حاولت النهوض لكن جسدي كان مثقلا بالجروح والضربات تألمت بشدة حتى نهضت ووخزات انقضت على جسدي الصغير، اعتدلت ونظرت حولي، لقد كان بيتنا عبارة عن اشلاء وقطع صغيرة وكبيرة مبعثرة هنا وهناك، شعرت بشيء ينحدر على جبهتي وضعت يدي عليه فإذ بسائل احمر يملأها عرفت بأنه دم، كنت اريد ان اشرع بالبكاء ولكن الى من سأهرع وابكي، بدأت كالمجنون أبحث عن اسرتي، أين هم؟ امي أبي أخي أختي اين هم؟
كنت ازيح قطع البيت الكبيرة والصغيرة بيدي الضئيلتين بحثا عنهم، كانت الدموع تتساقط من عيني دون ان تجد من يمحسها، يتفطر قلبي عند ازاحة اي قطعة اركض واسقط بين رفات الامال والذكريات التي حملها هذا البيت. أخييرا وجدت يدا ممدودة الى الاعلى والجراح تملأوها أمعنت النظر فيها إنها يد أخي حازم هرعت نحوها كمن وجد طوق النجاة من الغرق، أمسكت به وسحبته بكل قوتي الطفولية، كان عبارة عن جسد مثقل بالجراح والكدمات ووجهه ينزف دما، احتضنني بقوة وألم.
فجأة اقتربت طائرة من احتضنني أخي وكان قلقة يزداد كلما اقتربت من الطائرة أكثر مشكلة موجات هوائية كادت تجلعنا نترك مكاننا.
فجأة رأيت كرة ضخمة من اللهب تنزل من الطائرة وتليها أخرى فأخرى أصبح الجو وكأنها تمطر نارا، أمسكني أخي وركض بي وخبأني تحت اكبر قطعة علعه يحميني ثم ذهب واختفى.
اصوات تفجيرات وتفجيرات تملئ المكان وضعت يدي على اذني وخبأت رأسي بين قدمي منكمشا على نفسي، بعد عدة ساعات، خرجت من تحت الانقاض، دماار شاسع غطى المنطقة كل البيوت هدمت نيران ونيران اشتعلت فأحرقت قلبي بحثت عن أخي في كل مكان عن امي وابي ناديت بأعلى صوتي حتى تعبت حنجرتي، لم ألق اي رد.
وقفت أنظر الى آثار هذا الخراب نيران اشتعلت امهات مكلومات يبكين على أطفالهن، وريح خريفية جففت أي شيء جميل في قلبي رياح داعب خصلات شعري وملابسي الممزقة.
0 تعليقات