محطات بلا تلفاز
ضجيج هادئ، أنوارٌ عتمة، سيارت تسير بطريق التوقف، حافلات تجثو حواف المجمعات تأبى التحرك، عصافير تغرد لحن الصمت، هواء ساكن، غيوم تمطر الجفاف، كتبٌ تحث على الجهل، أقلام تمحي الأمل، اغانٍ تثير الجدل، زمنٍ يصنع الرذل، أيامٌ تسير بالملل، تربصٌ متعب، أحياءٌ تبثق الكآبة، مساجدٌ تقيم صلوات الجنازة ،
كل هذا يحدث أثناء قلب المحطة التلفزيونية إلى محطة تلفزيونية أخرى،
يمشي القطار، تبحر السفينة، تُنار الإضاءة، يتحرك القمر، تقع الشهب، تهتز الاشجار، تسقط الأوراق،تبدأ النزاعات، تشتغل الفتنة والصراعات، وتقتات الطيور الحبوب بكل حب واتفاق عكس الإنسان بالتأكيد، يأتي الأب من العمل، يعود الأب للعمل، يذهب الطفل للمدرسة يعود الطفل للبيت، ومازالت المذيعة تتحدث مع المراسلة عن أعداد الضحايا، وما زال مذيع الصمِ والبكمِ يتحدث بجهرٍ غير مسموع وبإيماءات يديه تفهم جدتي ما يقول وحفنة من الدموع ترأس مقلتها بقلب منكسر محطم من تلك الاخبار، أما أنا لا أفهم ماذا يجري، جل الذي يهمني أن يعود أبي بدواءٍ لي يقيني ويأخذ الصداع العنقودي معه، يأتي محملًا بما اشتهي من سكاكرٍ لذيذة أعرف أن أبي لا يحبذها لي لكن هيهات أن اقتنع بما هو صحي.
أنظر من النافذة التي تعلوني ببضع سانتي مترات، أضع قدمي على طرف الكرسي المتحرك الذي تقطن عليه جدتي، أنظر وما لي أرى الناس تتهافت بعضهم يسير و يهرول وبعضهم يركض، رأيت بأعينهم خوفٌ عميق أظل الطريق، لكن انا كعادتي لم ولن أكترث.
عدت لسريري أخذت دفتر رسمي وبدأت برسم ما يحول ببالي،
أأرسم خوف الناس؟
أم الناس التي استمسك عروتها الخوف ؟
أم أرسم مشهد من الدماء المنهمرة والحروب؟
لا لا لن أرسم أيًا منهم، سأرسم الصراع بين أوراق الشجر المتساقطة، لربما أحاول رسم الشارع بلا أنور وبلا سيارات تمامًا كبعد منتصف الليل، اتعرفون يمكنني أن أرسم مغنٍ يغني بكل تفاهة والناس من حوله متراصون، ماذا تقول ؟ لا لن أرسم صورة تعبر عن الزمن ولن أرسم جهاز تلفازٍ قديم صوت تشويشه يفوق صوت تفكيري، ولن أرسم شخص يجلس قاع الوادي متربص منهك نفسه، سأرسم على ورقتي بقيعةٍ بيضاء وما يحيطها سواد هكذا قال لي العصفور سأفعل كما قال لي .
الآن سأقلب إلى محطة أخرى،
توقف صوت المذيعة، تسمرت المراسلة، حفنة جدتي المليئة بالدموع انهمرت وتوقفت على اسيلها ولم تكمل مسير النزول، يتوقف رمش المذيعة والمراسلة وأيضا جدتي، ساد الهدوء المكان، انساب صوت ابنة جيراننا التي تعشق البكاء جهرا، قُلبت شاشة التلفاز إلى الألوان السبعة وضج التشويش، بعد كل هذا لم تستفق جدتي ولم تأتي والدتي من جارتها التان تحبذان التكلم طويلا طويلا طويلا، بدأت همهمة الثلاجة بالتلاشي وصوت المروحة المزعجة وشفراتها ذات الصدئ أصبحت تتحرك ببطئ وصوت احتكاكها اغاضني، وعم المكان بصوت حشرجة جدتي، وافت الناس المكان مسرعة وتلفظت بالشهادة لله، وأخرجت ما تبقى من الهواء في رئتيها معلنة إنتهاء المعركة مع الحياة.
ساد البيت الحزن، وساعة على الحائط تجثو بلا تحرك تبكي عليها، والكنبة شاح لونها حزنًا عليها، وعكازاها انتهكا بلحظة وداعها، وساح دهان الجدران بدموعه.
فما سر النقل من محطة تلفزيونية إلى محطة تلفزيونية أخرى؟
0 تعليقات