إنضم لنا

مجلة مبادرة ادعم موهبتك

السكيزوفرينيا، بقلم : محمود مساد

 الساعة الثانية فجراً : 

يجلس في المقبرة ، يتكئ على شاهد القبر ، بجانبه زجاجة وسكي ، وكأس قديم ..

وكيف لي أن أترككِ يا صبيّة ، ما عاد لي عيش منذُ أن رحلتِ .

تغير الوجع وصار عتيقاً ، كأن حنجرتي مربوطة بحبل غليظ يسحبها للخارج ، كأن الموت يسيل مع عرقي على جبهتي ، كأنني أثمل لكي أراكِ ..

يقهقر ساخراً بصوت عالٍ : 

قالوا أنني سأنساكِ ، قالوا أن ذاكرتي الغبية اللعينة ستنساكِ يا حبيبة الفؤاد ، ذهبت إلى كل عرافي البلدة 

ذهبت لكل زاوية ومسجد ، مسحت الصليب على صدري ، قرأت تراتيلاً كهنوتية ، شربت ، وشربت وشربت وشربت - يطرق بيديه على فخذه ويصيح باكياً - لكنني لم أنسَ !!!

كانت شفتاكِ زمزماً ، وشفتاي عطشى ، مالي لا أشرب إلا علقماً بعد رحيلكِ !! 

هذا الوجع ملعون ما لُعن ابليس ، هذا الوجع قبيح كما أنا ، أيا صاحبة القلب الوردي ، كيف حالك في قبرك اللعين هذا !؟ 

أتشعرين بالبرد ، حسنا انتظري - يخلع معطفه ويضعه على القبر - ما رأيك بكأس من الوسكي ؟ - يقرع الكأس بالشاهد ، ويسكب الكأس فوق القبر ...- 

لم تتغير رائحة العطر في جنبات البيت يا محبوبتي 

ما زالت رائحة خصلات الشعر هنا ، على أكتافي وفي لحم أصابعي ، وشاحك الوردي ، أنظري ، ربطته بيدي كي لا يضيع ، فقد بدأت أنسى أين أضع الأشياء 

بدأت أفقد السيطرة على ذاكرتي التي بدأت تتآكل 

ولكن ، كيف للقلب أن ينسى !! 

بالله عليكِ أخبريني ، كيف للروح أن تنسى يا صبية ؟.  - يقوم ، ويترنح هو وكأسه وهو ينظر للسماء يصرخ بأعلى صوته 

ويقول : 

أيها الرب ، أيها الرب ، كيف لك أن تأخذ هدية قد أعطيتني أيها ؟ 

كيف تأخذ قلباً برائحة الياسمين ، وتترك قلباً برائحة الخردل ؟

 -يجثو على ركبتيه ، والكأس يترنح معه ، ويصرخ قائلاً-

في صحة أهل القبور ، اشربوا نخب لعنتي التي لا تمحى ، اشربوا نخب ألمي ... 

-يذهب للقبر الذي بجانبها  ، كتب عليه ، هنا يرقد ماهر .. - 

وبعد أن أشار بإصبع السبابة للقبر قال : 

اسمع يا ماهر ، هذه محبوبتي ، فلا تأخذها مني ، وإلا 

سأحاسبك يوم العرض عند رب الأرض ، إياك أن تفتنك بجمالها ، ولا يعجبنك صوتها الحنون ، دعها وشأنها وفقط ، فهمتْ ؟ 

يرجع للقبر ، يحمل زجاجة الوسكي ، يكسر الكأس في الأرض ، ويشرب من الزجاجة ، تارة يشرب الوسكي وتارة يشرب دمعه ، ينظر للسماء ويصرخ : 

آآآآه ، آآآآه ، يتحول صراخه لأعلى ، ويصبح صراخه مرتجفاً ، يصيح ، ويبكي ، يصيح ، ويبكي 

يغُص بالدمع ، ينظر بجانبه لقبر آخر : 

اسكت أيها الميت الطريد من الدنا ، أنا لا أزعج أحداً 

يقع أرضاً ، يلهث ، ويمسح وجهه بالتراب ، وينام من شدة تعبه ....

 " الساعة العاشرة صباحا "

 " تحضر جنازة ، فيقول احد اَهلها لحفار القبور وحارس المقبرة : " 

- من هذا !! 

" يقول حارس المقبرة " 

- هذا رجل يأتي كل يوم ، يجلس عند القبر هذا ويصيح ويبكي إلى أن ينام من التعب 

- ومن صاحب هذا القبر ؟ 

- هذه سيدة ماتت وهي تملك من العمر خمسة وسبعين عاماً ، ماتت قبل عشرين سنة ، ولا تقربه ، ولا يعرفها ، هو يملك من العمر خمسة وعشرين عاماً ، وأغلب الظن أنه مصاب بمرض السكيزوفرينيا ...


إرسال تعليق

0 تعليقات