الساعة الثانية فجراً :
يجلس في المقبرة ، يتكئ على شاهد القبر ، بجانبه زجاجة وسكي ، وكأس قديم ..
وكيف لي أن أترككِ يا صبيّة ، ما عاد لي عيش منذُ أن رحلتِ .
تغير الوجع وصار عتيقاً ، كأن حنجرتي مربوطة بحبل غليظ يسحبها للخارج ، كأن الموت يسيل مع عرقي على جبهتي ، كأنني أثمل لكي أراكِ ..
يقهقر ساخراً بصوت عالٍ :
قالوا أنني سأنساكِ ، قالوا أن ذاكرتي الغبية اللعينة ستنساكِ يا حبيبة الفؤاد ، ذهبت إلى كل عرافي البلدة
ذهبت لكل زاوية ومسجد ، مسحت الصليب على صدري ، قرأت تراتيلاً كهنوتية ، شربت ، وشربت وشربت وشربت - يطرق بيديه على فخذه ويصيح باكياً - لكنني لم أنسَ !!!
كانت شفتاكِ زمزماً ، وشفتاي عطشى ، مالي لا أشرب إلا علقماً بعد رحيلكِ !!
هذا الوجع ملعون ما لُعن ابليس ، هذا الوجع قبيح كما أنا ، أيا صاحبة القلب الوردي ، كيف حالك في قبرك اللعين هذا !؟
أتشعرين بالبرد ، حسنا انتظري - يخلع معطفه ويضعه على القبر - ما رأيك بكأس من الوسكي ؟ - يقرع الكأس بالشاهد ، ويسكب الكأس فوق القبر ...-
لم تتغير رائحة العطر في جنبات البيت يا محبوبتي
ما زالت رائحة خصلات الشعر هنا ، على أكتافي وفي لحم أصابعي ، وشاحك الوردي ، أنظري ، ربطته بيدي كي لا يضيع ، فقد بدأت أنسى أين أضع الأشياء
بدأت أفقد السيطرة على ذاكرتي التي بدأت تتآكل
ولكن ، كيف للقلب أن ينسى !!
بالله عليكِ أخبريني ، كيف للروح أن تنسى يا صبية ؟. - يقوم ، ويترنح هو وكأسه وهو ينظر للسماء يصرخ بأعلى صوته
ويقول :
أيها الرب ، أيها الرب ، كيف لك أن تأخذ هدية قد أعطيتني أيها ؟
كيف تأخذ قلباً برائحة الياسمين ، وتترك قلباً برائحة الخردل ؟
-يجثو على ركبتيه ، والكأس يترنح معه ، ويصرخ قائلاً-
في صحة أهل القبور ، اشربوا نخب لعنتي التي لا تمحى ، اشربوا نخب ألمي ...
-يذهب للقبر الذي بجانبها ، كتب عليه ، هنا يرقد ماهر .. -
وبعد أن أشار بإصبع السبابة للقبر قال :
اسمع يا ماهر ، هذه محبوبتي ، فلا تأخذها مني ، وإلا
سأحاسبك يوم العرض عند رب الأرض ، إياك أن تفتنك بجمالها ، ولا يعجبنك صوتها الحنون ، دعها وشأنها وفقط ، فهمتْ ؟
يرجع للقبر ، يحمل زجاجة الوسكي ، يكسر الكأس في الأرض ، ويشرب من الزجاجة ، تارة يشرب الوسكي وتارة يشرب دمعه ، ينظر للسماء ويصرخ :
آآآآه ، آآآآه ، يتحول صراخه لأعلى ، ويصبح صراخه مرتجفاً ، يصيح ، ويبكي ، يصيح ، ويبكي
يغُص بالدمع ، ينظر بجانبه لقبر آخر :
اسكت أيها الميت الطريد من الدنا ، أنا لا أزعج أحداً
يقع أرضاً ، يلهث ، ويمسح وجهه بالتراب ، وينام من شدة تعبه ....
" الساعة العاشرة صباحا "
" تحضر جنازة ، فيقول احد اَهلها لحفار القبور وحارس المقبرة : "
- من هذا !!
" يقول حارس المقبرة "
- هذا رجل يأتي كل يوم ، يجلس عند القبر هذا ويصيح ويبكي إلى أن ينام من التعب
- ومن صاحب هذا القبر ؟
- هذه سيدة ماتت وهي تملك من العمر خمسة وسبعين عاماً ، ماتت قبل عشرين سنة ، ولا تقربه ، ولا يعرفها ، هو يملك من العمر خمسة وعشرين عاماً ، وأغلب الظن أنه مصاب بمرض السكيزوفرينيا ...
0 تعليقات